“١٠٠ عام من التفاوض حول الأحوال الشخصية”

سلسلة تقارير “ثلاثون عام من أرشيف منظومة العدالة”

Facebook
Twitter

تقديم: عايدة سيف الدولة

للوهلة الأولى يبدو من الغريب أن يستدعي الأمر قرناً من الزمان– دون حسم – لمناقشة كيفية تنظيم حياة شخصين بالغين قررا الارتباط وتكوين أسرة، سواء نجح مشروع هذا الارتباط أم انتهى بالانفصال. فالمنطقي هو أن يتفق الطرفان على المتوقع والمطلوب من كل طرف سواء في حالة الصفاء او الخلاف، مثلما هو الحال في كافة العقود. لكن الأمر يختلف تماماً حين يتعلق الأمر بقانون الأحوال الشخصية. فإذا كانت العقود بشكل عام تعقد بين أطراف متساوية في الأهلية والحقوق والواجبات إلا أن هذه النقطة هي مكمن الخلاف في حالة قوانين الأحوال الشخصية، فالمجتمع ومؤسساته كافة لا تعتبر أن طرفي عقد الزواج متساويان لا في الأهلية ولا في المسئولية ولا في الحقوق ولا في الواجبات. ذلك أن أحد أطراف العقد، بحسب الاعتقاد السائد، هو الرجل، القوام، العائل، العاقل، المتحكم في مشاعره، المنطقي في أفكاره وقراراته، المسئول عن الأسرة وبالتالي صاحب الحق في اتخاذ القرار وتنفيذه وصاحب الحق المطلق في فسخ العقد من جانب واحد إذا ارتأى ذلك. والطرف الثاني، المرأة، هي – بحسب الاعتقاد السائد أيضاً، هي الطرف الأضعف، الاعتمادي، العاطفي في قراراته، غير القادر على التحكم في مشاعره، التابع.

في ضوء هذا التصور وما يترتب عليه من تقسيم للأدوار بين النساء والرجال، يصبح من المتوقع أن يحرص أي قانون ينظم العلاقة بينهما، على حماية النساء اللاتي يفترض فيهن أنهن الطرف الأضعف. فيحميهن على سبيل المثال من الطلاق الأحادي من طرف الرجل، أو اتخاذه زوجة ثانية بما يترتب على ذلك من أذى للزوجة الأولى أو ان ينص صراحة على تجريم عنف الطرف الأقوى على الطرف الأضعف – حتى الآن ورغم مطالبات عديدة من المجتمع المدني المصري عامة والمنظمات النسائية خاصة يحجم البرلمان والدولة عن اصدرا قانون يجرم العنف الأسري – أو أن يضمن للطرف الأضعف – الزوجة – انفاق الزوج عليها وعلى أطفالهما الأمر الذي يتمكن العديد من الأزواج من التهرب منه في حال الانفصال – بل وحتى في حال عدم الانفصال تشير الاحصائيات الرسمية بأن اكثر من 30% من الأسر المصرية تعيلها نساء وحدهن اما لبطالة الزوج او لتقاعسه عن الانفاق لأي سبب وأحيانا بدون سبب.

الإشكالية في هذا التصور وهذا العقد غير المتوازن أنه تصور لا علاقة له بالواقع، حتى لو توافقت أغلبية المجتمع بمختلف مؤسساته على الادعاء بغير ذلك. الأمر إذا لا تعلق بتنظيم العلاقة بين رجل وامرأة. وإنما بتنظيم تلك العلاقة بما يحافظ على النظام القيمي للمجتمع والمتوقع من أدوار من كل من الرجال والنساء حتى وان كانت تفاصيل الحياة اليومية في كثير من الأحوال تعكس رواية أخرى. واقع الأمر – ورغم وصفه بقانون الأحوال “الشخصية” – إلا أنه يكاد لا يوجد شيء “شخصي” في هذه القوانين. فأطراف التعاقد يتجاوزون طرفي العقد ليس الى عائلتي الأطراف فحسب، بل أيضا إلى القوى السياسية والدينية والاجتماعية المؤثرة والمسيطرة في المجتمع.

القانون لا يوفر الحماية للطرف الأضعف، بل يحكم السيطرة عليه لصالح الطرف الأقوى، لأن ذلك الطرف الأقوى هو الذي يحكم ويتحكم، لا في العلاقة بين اثنين فحسب، بل في مجمل المجتمع الذي يتمسك بذكوريته وقوامة رجاله، حرفيا أو فكريا. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا هذه الرغبة في السيطرة على الطرف الأضعف. أليس الأوقع ان نسعى الى السيطرة على الطرف الأقوى؟ إلا لو كان المجتمع يدرك أن النساء لسن بالضعف الذي يتمناه ولذلك يجب احكام السيطرة عليهن.

الهدف النهائي إذا هو الحفاظ على السيطرة على الوضع الراهن في المجتمع، وعلاقات القوة القائمة بين الرجال والنساء، وبين العناصر الاجتماعية العلمانية والتقدمية من جهة وتلك السياسية المهيمنة والدينية والمحافظة من جهة أخرى، وعدم تقديم تنازلات إلا عندما تهدد المطالب بإحداث اضطراب يهدد استقرار الوضع القائم، أو بناء على إملاءات أو متطلبات لاعبين دوليين الذين تكون تبرعاتهم ومساعداتهم مشروطة بأوجه معينة من التغيير.

وليس قانون الأحوال الشخصية بالقضية الوحيدة التي يدور حولها هذا الجدال السياسي الديني. فقد كانت حقوق النساء وحياتهن الخاصة وأجسادهن دائما هي ساحة المناظرة والتفاوض والحسابات بين القوى المؤثرة وخاصة بين القوى السياسية والدينية، فهي المجال الذي يحاول كل طرف منها أن يثبت أن له الكلمة العليا وأنه من يرسم خطوط المسموح والممنوع. ولم يكن الجدال الذي دار حول ختان الإناث على مدى عقود وشهد ذروته في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام 1994 الا مثالا على ذلك، حتى وصل ممثلو الطرفين – السياسي والديني والذي شمل المسلمين والأقباط – إلى حل وسط يجرم ممارسة ختان الاناث في المستشفيات العامة دون المساس بمصالح الأطباء الذي يمارسونه في العيادات الخاصة فبدا الأمر انتصارا للطرفين رغم انه في النهاية لم يخلص الى ادانة واضحة لهذا النوع من العنف ضد الفتيات ولا مس التصور المجتمعي عن دور كل من النساء والرجال في العلاقة الحميمة بينهما. هذا مجرد مثال.

يستند الاعتراض على مساواة النساء والرجال في العلاقة الزوجية إلى أمر متفق عليه بين متخذي القرار السياسي والديني والتشريعي الى أنه لا يجوز لقانون أن يتعارض مع تعاليم الشريعة الإسلامية. ولن ندخل هنا في نقاشات حول التفسيرات المتعددة للشريعة وما اختاره المشرعون لكي يكون مرجعية لهم. سوف نقتصر هنا على مثال واحد تنازل فيه المشرعون عن الشريعة كمرجعية لصالح مجتمع الذكور، وهم المتحكمون والمعتلون لأغلب السلطات في البلاد. بحسب الشريعة يعتبر الزنا جريمة يعاقب عليها الرجال الزاني والمرأة الزانية على السواء. فكيف يمكن تحوير النص بحيث يخدم هرمية النوع الاجتماعي في المجتمع؟ من خلال تعريف الزنا نفسه! حيث يعتبر القانون المرأة زانية بغض النظر عن المكان الذي مارست فيه خيانة زوجها. أما الرجل فلا يعتبر زانيا إلا إذا مارس هذه الخيانة على سرير الزوجية. ماذا يقول القانون للرجال؟ بحسب محامية مصرية مخضرمة، يقول لهم: لو كان ولابد أن تزنوا فلتختاروا مكانا آخر غير سرير الزوجية. لكن طبعا لم يكن هذا هو التفسير المعلن. بل كان التفسير المعلن هو أن هذه المرأة الأخرى قد تكون زوجة له وهو ما أجازه له الشرع. هذا مجرد مثال على خضوع حتى المرجعية الدينية التي ارتضوها مرجعا للمصالح المباشرة لنصف المجتمع “الأقوى”.

في رأينا أن محاولة التوافق حول قانون للأحوال الشخصية يكفل المساواة والكرامة وحربة اتخاذ القرار للطرفين سوف تستدعي إن آجلا أو عاجلا أن يكون قانون الأحوال الشخصية المدني مطلبا قادرا على طرح نفسه بقوة وبدون ابتزاز سياسي أو ديني أو ذكوري في مواجهة الإصرار السياسي والديني على أن تبقى هرمية المجتمع، حتى لو ترتب عليها ظلم – على ما هي عليه. إن آجلا أو عاجلا سوف يرتفع صوت النساء مطالبا بحقوقهن في علاقات زوجية تحترم كينونتهن كأفراد مثلما تنظم علاقاتهن بأزواجهن. وإن عاجلا أو آجلا سوف ترتفع أصوات رجال سوف يدركون أن استمرار الحياة الزوجية طوعا بين طرفين يتساويان في الحق في إقامتها أو إنهائها هو الأكرم والأكثر احتراما لإنسانيتهم ورجولتهم.

تنقسم الورقة التالية إلى قسمين: القسم الأول يعرض لتطور قوانين الأحوال الشخصية في مصر منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا على خلفية السياق السياسي والنضالي القائم في كل مرحلة، ومواقف أصحاب المصلحة الرئيسيين خلال تلك المناقشات وما توصلت إليه في الوقت الحالي بالتركيز على انعكاس ذلك وترجمته على حياة النساء.

أما القسم الثاني فيتناول بالتفصيل تلك القوانين والتعديلات المتعددة التي صدرت طوال قرن من الزمان

لتحميل التقرير

اشترك في القائمة البريدية