هل يمكن أن نسمع أصوات المعركة بعد عشر سنوات من حدوثها؟
ها هو الدبيب الحي، يمشي تحت الجلد في استكانة مزيفة، يتعايش مع الحاضر ويتملق اللحظة الفائتة بفخر أحيانًا، ويلعنها بغضب أحيانًا أخرى، أمامنا لحظات عاشها عشرات الأطفال الذين اشتركوا في معركة محمد محمود الأولى التي جرت وقائعها في نوفمبر من عام الثورة. نرصد اللحظة الرسمية كما سجلتها الأوراق، نسمع القليل من أصواتهم ونحاول رسم ملامحهم من الوصف المخل، يتحركون على الورق رغم ثبات الاتهامات العبثية وقدرتها على الفتك بعقل طفل قاصر يواجه سلطة شرسة بلا أهل أو محام في أغلب التحقيقات. يقف ثمانية وثلاثون طفلًا، عدد منهم مصاب، أمام جهات التحقيق التي نصبت في خلفية حدث كبير يدور في الشوارع على مسافة شارعين من محكمة عابدين التي شهدت وقائع أغلب التحقيقات. كانت آلة القتل تحصد ولا تكل، تنزف العيون ويذهب نورها بلا رجعة. على مسافة شارعين من محكمة عابدين جرت وقائع لا يمكن أن تنكرها الأوراق الرسمية وإن حاولت. .
منذ اللحظة الأولى التي عاودت فيها قراءة أوراق هذه القضية، أدركت أن العودة للوراء مثل السير عكس اتجاه الطريق، مكلفة، تقشر طبقات من خداع الذاكرة؛ كيف يمكن قراءة قصة بعد عشر سنوات من حدوثها دون التفكير في مسار حياة أبطالها؟ كانوا صغارًا وصاروا شبابًا ورجالًا يخوضون غمار الحياة الآن، مختلفة مصائرهم، هل تصالحوا مع هذه اللحظة أم تركوها في قاع الذاكرة لتدفن في أحيائهم الفقيرة البعيدة التي جاء أغلبهم منها؟ كان أغلبهم بعيدًا عن المركز، بعيدًا عن مصر التي ترصدها عدسات مصوري العالم في هذه اللحظة، يتوق أغلبهم لـ”رؤية الحدث” كما عبَّروا ببراءة في بعض التحقيقات، لكنهم حين أتوا لم يكن هنالك مجال للفرجة الرخيصة والممازحة الطفولية، فقد جاءوا أرض الأثمان الباهظة حيث تنهار الحكومة أمام سيطرة المجلس العسكري على مجريات الحكم ليبدأ عصر الضربات الموجعة للمسار الثوري: الإخوان في حالة انتشاء سياسي، يستعدون لانتخابات التمكين، والمعارضة الثورية منقسمة ما بين المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأولى ودعم معركة الثوار على الأرض. حين جاء أطفال هذه المعركة أضحى لكل شيء ثمن، ولكل خطوة في شوارع هذه المدينة معنى ومسار معبَّد بالخطر.
هذه أقوال مجموعة من الأطفال، دخلوا التجربة وحدهم وخرجوا كذلك. بقيت تفاصيل ما جرى لهم بين هذه الأوراق لعشر سنوات، والآن تحاول الخروج.