2023.04.26

مقدمة

قالت المحكمة الدستورية العليا في تعريفها للإبداع بأنه، " عمل ذهني وجهد خلاق - ليس الإبداع إلا موقفاً حراً واعياً يتناول ألواناً من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها وطرائق التعبير عنها - الإبداع في حياة الأمم إثراء لها وهو أداة ارتقائها - الإبداع في العلوم والفنون ليس تسليماً بما هو قائم من ملامحها بل تغييراً فيها وتطويراً لها - الإبداع محل تقدير الأمم وتعمل على تيسير الطريق إليه - الإبداع اتصال بما هو قائم إعمالاً لمحتواه - الإبداع نهج متواصل ونهر متجدد ومتدفق دون انقطاع."1.

وأقر الدستور المصري في المادة 67 منه: "حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها. وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة، إضافة إلى التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها، وذلك كله وفقاً للقانون".

ويتضح من مناقشات لجنة الخمسين التي شُكلت في أواخر عام 2013، ﻹعداد المشروع النهائي للتعديلات الدستورية في شأن المادة سالفة الذكر، "إنما شرعت كفالة لحرية اﻹبداع الفني أو اﻷدبي، باعتبارها قاطرة الفكر، وداعمة الثقافة، وحاضنة قوى المجتمع الناعمة، فلا يخشى صاحب اﻹبداع الفني أو اﻷدبي، من مداهمته بعقوبة تسلب حريته على ما أنتجته قريحته الذهنية من منتج أدبي، أو ما قدمته موهبته الفطرية من أداء فني. وفي المقابل، فإن امتناع توقيع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم المشار إليها إنما ينضبط بشروط واضحة، فلا حصانة لمنتج فني أو أدبي أو فكري من معاقبة كل من شارك فيه بعقوبة سالبة للحرية، إذا كون فعله جريمة متعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض اﻷفراد"2.

منذ أيام السينما الأولى في مصر، أصبحت الرقابة بأشكال وتكوينات مختلفة ودرجات متباينة؛ والمقصود بالرقابة هنا رقابة الدولة. وكان الهدف بالطبع السيطرة على ذلك الوسيط، الذي تحول من مجرد اختراع علمي قائم على خدعة بصرية إلى أحد أهم وسائل التعبير، فضلًا عن أن حيوية السينما سهلت وصولها إلى جمهور أوسع بكثير من جمهور اﻷدب والمسرح… الخ. تلك الشعبية الواسعة جعلت منها الوسيلة اﻷكثر تأثيرًا في الجمهور، وبالتالي اﻷشد خطرًا من وجهة نظر السلطات، سواء كان الخطر يتعلق بالسياسة وممارستها، أو بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، أو بثوابت المعتقدات الدينية، أو بالجنس بوصفه "تابو" أو حتى الجنس كثقافة وتحديدا التعامل معه أو معالجته من خلال الصورة. 3

وهو أمر نجد صداه عند النظر إلى المذكرة الإيضاحية لمقترح قانون من شأنه تنظيم الرقابة على المصنفات الفنية، والمعروف اﻵن بالقانون رقم 430 لسنة 1955، والذي أعدته وزارة الإرشاد القومي التي كان يتولاها في ذلك الوقت الصاغ صلاح سالم (الفترة من 1953 وحتى 1958)، حيث حددت المذكرة الغرض من الرقابة واﻷسباب التي دعت الوزارة إلى إعداد هذا المقترح، وهي: "المحافظة على اﻷمن والنظام العام وحماية اﻵداب العامة ومصالح الدولة العليا"؛ ثلاث مسائل أساسية خُلق القانون بهدف حمايتها.

لكن القانون لم يوضح ما المقصود بكل من المسائل الثلاث المستهدفة بالحماية، وبالتالي غاب التعريف القانوني، باعتباره المعيار الذي يلتزم به القائمون على تنفيذ القانون، وبهدف تجنب أي تعسف منهم، وبذلك قد يمثل قيدًا يؤثر على حرية التعبير الفني. فالتعبيرات غير المنضبطة والتي تتسم بالغموض تشكل خطورة في ظل غياب المعايير الواضحة.

دعونا نقدم مثال لتوضيح خطورة تلك الصياغة التي تتسم بالغموض، ونعود بالتاريخ إلى 1 نوفمبر 1982، عندما وافقت الرقابة على المصنفات الفنية، على الترخيص بالمعالجة السينمائية لموضوع فيلم "خمسة باب"، وفي 14 نوفمبر 1982، أجازت الرقابة على المصنفات الفنية السيناريو الخاص بالفيلم والتصوير وفقًا له، وبتاريخ 19 يوليو 1983 وافقت الرقابة ورخصت عرض الفيلم، وتم عرضه بالفعل بدور العرض اعتبارًا من 8 مارس 1983.ولكن بتاريخ 23 أغسطس 1983 أصدرت الرقابة قرارًا بسحب الترخيص، حيث استبان للرقابة العامة على المصنفات استياء جمهور المشاهدين من هذا الفيلم، لما انطوى عليه من تشويه لتاريخ مصر وإساءة لسمعتها في الداخل والخارج، وما قد يؤدي إليه ذلك من انهيار للحياء الخلقي للمواطنين والمساس بمشاعرهم، وهو ما أوردته مذكرة الدفاع، عن وزارة الثقافة وجهاز الرقابة، "إلا أن كلا من وزارة الثقافة وإدارة الرقابة، قد فوجئتا بموجة سخط واستهجان من هذا الفيلم، من مختلف فئات المواطنين والشخصيات العامة والمفكرين، والمصريين العاملين بالخارج، لما لمسوه من انحدار بالقيم الأخلاقية والمتاجرة بالعرض، بصورة تشوه وجه المجتمع المصري في الداخل والخارج. ومن ثم فقد اعتبرت جهة الرقابة الظروف الجديدة التي طرأت بعد الترخيص بالعرض، تقتضي السحب عملًا بنص المادة 9 من القانون رقم 430 لسنة 1955 المشار إليه؛ فأصدرت قرارها بسحبه للانطباع السيئ الذي تولد لدى الجماهير، وللمحافظة على الآداب العامة ومصالح الدولة العليا"4؛ وقد أيدت محكمة القضاء اﻹداري في حكمها قرار السحب، ونوّهت بأن الحق في الإبداع ليس متروكًا للفرد إلا في الحدود، وبالضوابط التي تضعها الدولة مستلهمة في ذلك نبض الجماهير وإيقاع الرأي العام5.

ونستطيع القول، إن اﻹطار العام أو الفلسفة التي يتبناها المشرع المصري، تقوم في اﻷساس على الخوف من التأثير الكبير للمصنف الفني، لذا يرى وجوب إزالة الشوائب منه قبل عرضه على الجمهور، تجنبًا لأي تفاعل قد يؤثر على الحماية الواردة بالنص؛ لذا استخدم المشرع مصطلحات غامضة وفضفاضة، تسمح للرقباء بتطبيق معايير شخصية، ما يؤدي إلى التعسف في استخدام الصلاحيات الممنوحة وفقًا للقانون.

لكن قبل التطرق إلى هذه النصوص، تجدر الإشارة إلى واقعة أخرى نرى أن لها تأثيرًا على قرارات وعمل الرقباء منذ حدوثها. تعود الواقعة إلى عام 1977 عندما تم إحالة 15 رقيبة ورقيب، من بينهم الأستاذة اعتدال ممتاز، مديرة الرقابة على المصنفات الفنية حينها، إلى المحكمة التأديبية لسماحهم بعرض فيلم "المذنبون" للمخرج سعيد مرزوق. ورغم فوز الفيلم بجائزة وزارة الثقافة كأحسن فيلم مصري عرض عام 1976، إلا إن ذلك لم يمنع وزارة الثقافة من إحالة الرقباء إلى النيابة اﻹدارية المختصة بمحاكمة العاملين، والتي أصدرت حكمها بإدانة الرقباء جميعًا في القضية رقم 35 لسنة 1977، وكان الاتهام الموجه إليهم وفقًا لنص القرار: "وافقوا كلاً في حدود اختصاصه على الترخيص بعرض فيلم "المذنبون" عرضًا عامًا في الداخل، رغم ما انطوى عليه من مخالفات صارخة، تمس اﻵداب العامة والقطاع العام، وتنال من قيم المجتمع الدينية والروحية، بما تحمله في طياتها من دعوة سافرة لنشر الفساد والحض على الرزيلة، فضلاً عن عدم احترام الدين بما له من قدسية واحترام، اﻷمر الذي من شأنه اﻹساءة إلى المجتمع والحط من قدره وإظهاره في صورة مشبوهة، وتصويره على أنه مجتمع استشرت فيه كل مظاهر الانحلال"6.

وكانت تلك أول مرة في تاريخ الرقابة على المصنفات الفنية التي يتعرض فيها مدير للرقابةوعشرة من موظفيها، للمحاكمة التأديبية بسبب إجازة عرض فيلم.

وارتبطت هذه الواقعة باسم "جمال العطيفي"، وهو وزير الثقافة الذي اتخذ هذا القرار في ذلك الوقت، والذي أصدر في أبريل 1976 قرارًا برقم 220، بشأن القواعد اﻷساسية للرقابة على المصنفات والذي يعد في جوهره بل وفي نصوصه أيضًا، عودة إلى تعليمات سنة 1947 التي تحد وتقيد حرية التعبير، والتي وصفها علي أبو شادي بالفاشية.

وذكر صلاح عيسى حوار دار بينه وبين العطيفي حول هذا القرار، "لقد قابلت جمال العطيفي عند صدور القرار 220 لسنة 1976 قلت له: لماذا أصدرتم هذا القرار؟ قال: شيوخ المساجد أقلقونا وأحدثوا لنا ضجة فقلنا نصدر لهم هذا القرار لنسكتهم وفعلا امتدحوه بعد ظهوره"7.

وقد أصدرت جماعة السينما الجديدة بيانًا يعلن رفض قرار وزير الثقافة، لما يشكله من خطر بالغ على حرية التعبير وانتهاك صارخ للحريات الديمقراطية، كما رأت الجماعة أن القانون يتعارض مع مبادئ الدستور الدائم وسيادة القانون؛8 لم تنجح محاولة منع القرار الذي أصبح ساريًا منذ صدوره حتى اﻵن.

لمن هذا الدليل وما الغرض منه؟

يسعى هذا الدليل إلى تقديم المعلومات اﻷساسية حول كيفية تعامل المبدعين في مجال العمل السينمائي، مع القوانين والقرارات المنظمة والحاكمة للعمل السينمائي في مصر، وكذا الجهات واﻷجهزة المسئولة عن تنفيذ هذه القوانين.

ويهدف هذا الدليل إلى حماية المبدعين، من التعرض للمساءلة أو الملاحقة القانونية، الناجمة عن إغفال الإجراءات التي تفرضها تلك القوانين والقرارات. لكننا في ذات الوقت، نسعى إلى توضيح العوائق والقيود الناتجة عن هذه القوانين والقرارات، وأهمية تعديلها بما يتوافق مع حماية وتعزيز حرية اﻹبداع الفني.

وفي هذا اﻹطار يركز الدليل في القسم اﻷول منه على دور جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، والقوانين والقرارات المعنية بتنظيم إجراءات التعامل مع الجهاز. وفي القسم الثاني نتناول بالشرح قانون الملكية الفكرية المصرية، والحقوق والواجبات التي تتوافق مع بنوده فيما يتعلق بالعمل السينمائي. أما القسم الثالث فيتناول أهم الشروط التي يجب توافرها في عقود العاملين في مجال العمل السينمائي. وأخيرًا نتناول في القسم الرابع من الدليل النقابات الفنية المعنية ودورها.

وفي هذا اﻹطار يركز الدليل في القسم اﻷول منه على دور جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، والقوانين والقرارات المعنية بتنظيم إجراءات التعامل مع الجهاز. وفي القسم الثاني نتناول بالشرح قانون الملكية الفكرية المصرية، والحقوق والواجبات التي تتوافق مع بنوده فيما يتعلق بالعمل السينمائي. أما القسم الثالث فيتناول أهم الشروط التي يجب توافرها في عقود العاملين في مجال العمل السينمائي. وأخيرًا نتناول في القسم الرابع من الدليل النقابات الفنية المعنية ودورها.

 

للتحميل إضغط هنا