2025.03.09

المقدمة

تسلط قضية فرم مستندات جهاز مباحث أمن الدولة الضوء على واحدة من الحلقات المفقودة في سلسلة العدالة الانتقالية والتحول الديمقراطي في مصر. فهي قضية تحكي قصة جناح من نظام الحكم في مصر كان يتمتع بسلطة مطلقة في لحظة اندلاع الثورة. بدأت هذه السلطة في التشكل مع الاحتلال البريطاني لمصر، وأعيد إنتاجها في ثوبها الجديد على مراحل مختلفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بصراعات القوى السياسية منذ يوليو 1952. اعتمدت نظم الحكم على آليات القمع والتخويف وبث الرعب في نفوس المواطنين لتثبيت وجودها، من خلال الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري والمراقبة، واستمرت هذه الآليات في العمل والتوحش حتى أصبحت جزءًا من وضع يبدو وكأنه غير قابل للتغيير.

ومنذ تأسيس الجهاز في ١٩١٣ وهو العمود الفقري للدولة البوليسية في مصر. شهدت البلاد تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ضخمة، وتغيرت أنظمة الحكم من الاستعمار إلى الملكية ثم إلى الجمهورية، وظل جهاز أمن الدولة أحد أركان الدولة المصرية الذي لم يشهد تحولًا بنيويًا في بنيته ووظائفه وآليات العمل الخاصة به. لمع نجم الجهاز في حقبتي الاستعمار والملكية ثم خفت قليلًا على المستوى الشعبي وليس المؤسسي في الحقبة الناصرية. جاء هذا الخفوت بسبب تزاحم أجهزة أخرى ومنافستها لدور الجهاز، مثل المخابرات العسكرية والعامة. ومع التحول التدريجي بعد هزيمة ١٩٦٧ من الدولة العسكرية الأمنية في عهد عبد الناصر إلى الدولة البوليسية، عاد نجم الجهاز للبزوغ، وبالأخص مع التحولات الاقتصادية-الاجتماعية القاسية التي شهدتها مصر مع سياسات الانفتاح منذ ١٩٧٤. وفي تسعينات القرن الماضي، مع اشتداد الحرب على الإرهاب، أصبحت وزارة الداخلية وفي القلب منها جهاز مباحث أمن الدولة، هي المؤسسة الأكثر هيمنة ونفوذًا وقربًا لنظام الحكم. وبحلول الألفية الجديدة، بدأ رجال الداخلية في إطلاق لقب «أسياد البلد» على أنفسهم.

استطاع الجهاز تاريخيًا أن يُشعِر عموم المصريين والأشخاص المهتمين بالتغيير الاجتماعي بالضعف أمام آلة قمع كانت تعمل بشكل ممنهج ومؤسسي. فقد كانت هذه المؤسسة الأكثر تطورًا وحداثة في مواجهة المجتمع المصري؛ الذي عانت مؤسساته الاجتماعية والسياسية من عجز كبير في تطورها وتعثرت عمليات تحديثها. كان العجز هو الشيء المهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي في مصر؛ عجز أمام تردٍ شديد للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وعملت الدولة البوليسية، بمؤسساتها المختلفة، على تعزيز واستدامة كل التراتبيات الاجتماعية والسياسية التي تعيد إنتاج القهر وإضعاف قدرات المجتمع في/على التنظيم والتغيير.

اندلعت الثورة المصرية، على الرغم من العجز الواضح على المشهد السياسي والاجتماعي لعقود طويلة. كانت لحظة انفجار أتت بعد تراكم شقوق خُلِقت في حائط النظام الصدئ، والتي نتجت من صراعات القوة بين أجنحة السلطة المختلفة وأيضًا من خلال أفعال المقاومة الاجتماعية المتتالية عبر السنين. جاءت الثورة في أوج قدرة الدولة البوليسية وآلياتها في إحكام قبضتها على المجتمع المصري. جسدت لحظة الثورة المصرية قلبًا لموازين القوة التي كانت قائمة وتبدو ظاهريًا غير قابلة للتغيير أو الخلخلة. هذه الموازين كانت مرتبطة بأطراف عدة، ولكن المميز في لحظة الثورة هي أنها جعلت للجماهير ثقلًا يُعتد به، وجعلت من حركتهم مُحركًا رئيسيًا للأحداث، حتى ولو لم تنتصر في النهاية.

ثارت الجماهير على سوء أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وعلى قمع الشرطة في آن واحد. حمل اختيار الجماهير ليوم عيد الشرطة دلالة هامة على عدم قبولها لأن يكون الخوف والعجز هما المحددين الأساسيين لتشكيل واقعهم. ويعكس هذا الاختيار وعيًا بالدور الحيوي الذي كانت تلعبه مؤسسات الشرطة كجزء أساسي وفاعل من نظام الحكم وليس فقط كأداة للقمع السياسي. مثلت لحظة الثورة نقطة أمل للمجتمع المصري الذي عانى طويلًا من انتهاكات ممنهجة أدت لأن يفيض به الكيل. نزل المصريون للشوارع حالمين بحياة أفضل وبتغيير في الوضع القائم. تمحورت مطالب الجماهير أثناء الثورة حول مساءلة ومحاسبة المخطئين. بلورت المطالبات حرص ووعي الجماهير بالدور المركزي الذي تلعبه المسائلة والمحاسبة في تحقيق تغيير واسع وديمقراطي.

للتحميل إضغط هنا