مجلة نوافذ
مجلة نوافذ - العدد الأول
من الافتتاحية
عمرو عبد الرحمن
هذا هو العدد الأول من "نوافذ: إطلالة على المجتمع الحقوقي العالمي". يَصدُر عددُنا هذا بعد العدد التجريبي الذي رأى النور في أبريل الماضي، وبعد إفادتنا من العديد من الملاحظات والانتقادات التي تفضَّل بها أصدقاء وكتّاب نعتز بهم.
يَبني العدد الأول على الرؤية التي طرحناها لطبيعة الإصدار كبانوراما تستعرض التطورات في المجتمع الحقوقي العالمي على أساس ربع سنوي وتُخضِعها للتحليل والتفسير والنقد، مع تركيزٍ خاص على ما يمكن أن تستفيد منه الجماعة الحقوقية المصرية وما يمكن أن تضيفه كذلك.
كان من الطبيعي أن يُولِي العدد الحالي اهتمامًا خاصًّا لمشاركة مصر في الاستعراض الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، الذي جرت وقائعه خلال يناير الماضي. تقدَّمت مصر بتقريرٍ وطنيٍّ يُلخِّص الإجراءات الرسمية المتَّبعة للنهوض بحالة حقوق الإنسان في البلاد منذ آخر استعراض دوري عام 2019، كما تعرَّض التقرير لأهم التحديات التي واجهت هذه الجهود الرسمية. وكذلك تقدَّم عدد من المنظمات والشبكات الحقوقية المحلية والدولية بتقارير موازية تتناول مجمل الحالة الحقوقية في مصر أو تركِّز على حزمةٍ بعينها من الحقوق والحريات. تلقت الحكومة المصرية خلال الجلسة العامة 370 توصيةً تقدَّمت بها 137 دولةً مشارِكة، ثم تقدَّمت الحكومة المصرية في 13 يونيو الماضي بردها على هذه التوصيات، وهو الرد الذي تضمَّن قبولًا للغالبية العظمى من التوصيات —وهي غالبية أتت في صياغاتٍ عامةٍ ومجرَّدة ولا تتضمن التزاماتٍ محددة— وقبولًا جزئيًّا لبعضها، و"الإحاطة علمًا" بالباقي. على أنَّ القراءة المدقِّقة للرد الحكومي —كما أشار عدد من المنظمات الحقوقية— تدل على أنَّ عبارة "الإحاطة علمًا" هي في جوهرها صيغة أخرى لرفض تلك التوصيات.
يُقدِّم كلٌّ من التقرير الوطني والرد الرسمي على التوصيات —علاوةً على متابعة أداء الوفد المصري في الجلسة العامة— تعبيرًا صافيًا عن رؤية النخب الحاكمة في مصر للمنظومة الحقوقية الأممية واستراتيجيتها في التعامل معها، وهو ما يعزز من أهمية هذا الاستعراض.
من التوظيف إلى التوجُّس:
يمكن إجمال هذه الرؤية المصرية تحت عنوانٍ واحدٍ عريض، وهو السعي لتوظيف المنظومة الدولية لحقوق الإنسان كساحةٍ إضافية لخدمة توجُّهات النخب الحاكمة خارجيًّا وداخليًّا، والحيلولة، في الوقت نفسه، دون تحوُّل هذه المنظومة إلى قيدٍ على حركة هذه النخب. ببساطة، تريد هذه الرؤية نظامًا حقوقيًّا ضعيفًا كحالةٍ وسطى مُثلى بين حالة "اللا-نظام"، وما تعنيه من انفراد الدول الغربية الكبرى باستخدام وتوظيف خطاب حقوق الإنسان على حساب الدول الصغيرة أو متوسطة القوة، وبين "نظامٍ قويٍّ" يُخضِع دول العالم على قَدَم المساواة لآلياتٍ منضبطةٍ للرقابة والمحاسبة.
هذه الرؤية تبلورت منذ البواكير الأولى لهذا النظام الأممي حين كانت آلياته في طور التكوين. برزت هذه الآليات الوليدة كمنصةٍ مفتوحةٍ للدول حديثة الاستقلال، ولا تعترف بالأوزان النسبية للقوى الدولية كما هو الحال في المؤسسات المالية (صندوق النقد والبنك الدوليين)، أو مجلس الأمن. ونظرت النخب المصرية للآليات الأممية الحقوقية الناشئة، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي مثلًا، تمامًا كما نظرت للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ أي كمركزِ ثقلٍ لموازنة الخلل في النظام الدولي يمكن الاعتماد عليه لدعم حضور ومواقف الدول حديثة الاستقلال وأهدافها في تصفية الاستعمار وفرض قَدْرٍ من العدالة على النظام الاقتصادي العالمي وضبط سباق التسلُّح.
هذه الرؤية الإيجابية تُفسِّر مثلًا مسارعة مصر للتصديق على أولى الاتفاقيات الحقوقية الملزمة، وهي الاتفاقية الدولية لمناهضة التفرقة العنصرية عام 1967، كامتدادٍ لعملية تصفية الاستعمار عمومًا، والتوقيع على العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966. بالإضافة إلى ذلك، شاركت مصر بفعاليةٍ في المؤتمر الدولي الأول لحقوق الإنسان بطهران عام 1968، واستخدمت نصوص هذه المواثيق الحقوقية في إدانة العدوانية الإسرائيلية أو الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني وباقي الدول العربية في تقرير المصير. وبرزت الدبلوماسية المصرية، المدعومة بالخبرة القانونية العريقة، كلاعبٍ محوريٍّ في تكتُّلاتٍ مثل حركة عدم الانحياز، ثم تكتُّل الدول الإسلامية في الأمم المتحدة.
بالتوازي، سعت النخب المصرية للإفادة من الفقه القانوني الحقوقي الصاعد، وكذا المعرفة المتراكمة في المؤسسات الأممية الجديدة، لدعم سياساتها السكانية والتنموية. وهذا السعي الأخير لم يقتصر بالطبع على المؤسسات الدبلوماسية، ولكنه امتد إلى عددٍ من الجهات البيروقراطية والقضائية التي اكتشفت في ثنايا هذا الفقه تفسيراتٍ وجيهةً لبعض النصوص الدستورية الوطنية.
في المقابل، لم تُواجه الدولة ضغوطًا تُذكَر من هذه المنظومة الناشئة. النقدُ لسجلّ مصر الحقوقي في هذه الفترة على الصعيد العالمي كان يأتي إما من تياراتٍ سياسيةٍ بعينها، يسارية في الأغلب، أو منظماتٍ حقوقيةٍ دولية، أو حتى حكوماتٍ غربية.
هذه الخبرة الطويلة —التي استمرت حتى نهاية الثمانينيات تقريبًا مع انهيار الكتلة الشرقية— رسَّخت إدراكًا عميقًا لهذه المنظومة كمنظومةٍ صديقة، أو لا يُخشى جانبُها على الأقل، بل قد تُفيد في توسيع هامش حركة النخب الحاكمة داخليًّا وخارجيًّا. كما أنَّ غلبة الطابع السياسي الضيِّق على النقد الدولي للسجل الحقوقي المصري —سواء صدر عن حكوماتٍ أم قوى حزبية— رسَّخ من الانطباع بأنَّ النقد الخارجي دائمًا ما يكون مُسيَّسًا وغير نزيه، وأنَّ المنظومة الأممية الرسمية يجب ألَّا تفتح أبوابها لأصحاب هذه الانتقادات.
هذا الإدراك قاد بالتبعية إلى توجُّسٍ مصريٍّ غريزيِّ الطابع تجاه أي محاولة لتوسيع ولاية آليات النظام وإكسابها مزيدًا من المأسسة بإضافة اختصاصاتٍ رقابيةٍ وقضائية، إذ رأت الدبلوماسية المصرية في هذا السعي للتوسع انقلابًا أو اختطافًا لهذه المنظومة الصديقة من قِبَل أقليةٍ من الدول الغربية المعتمدة على أقليةٍ أخرى من المنظمات الحقوقية.
اللحظة الأولى للتعبير عن هذا التوجُّس العلني أتت مع مؤتمر فيينا الشهير لحقوق الإنسان الذي رعته الأمم المتحدة عام 1993. يُمثِّل مؤتمر فيينا محاولةً ثانيةً للدفع بالقانون الدولي لحقوق الإنسان كأساسٍ للعلاقات الدولية بعد أن تعثرت المحاولة الأولى عقب نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب الحرب الباردة وهيمنة القطبية الثنائية. في بداية التسعينيات، هيمن على النخب الحاكمة في الغرب نفسُ المزاج المتفائل الذي شاع في أوساطها عقب انهيار النازية، وقد عزَّز اختفاءُ القطبية الثنائية الانطباعَ بأنَّ الكوابح على عمل المنظومة الحقوقية قد تلاشت، وأنَّ اللحظة قد حانت لتأسيس نظامٍ فوق قوميٍّ للرقابة والمحاسبة.
ولكن في مصر، كما في العديد من دول الجنوب العالمي والمعسكر الاشتراكي السابق، كانت نهاية الحرب الباردة، وانتهاء حِقَب النضال ضد الاستعمار تقريبًا، تعني تقلُّص هامش الحركة المتاح أمام تلك النخب في مواجهة المؤسسات المالية الدولية أو الترتيبات الأمنية والعسكرية المفروضة من الولايات المتحدة. وبالرغم من اندفاع النخب الحاكمة المصرية في طريق الليبرالية الجديدة والتكيُّف مع الترتيبات الأمنية الأمريكية في المنطقة في هذا الوقت، إلَّا أنها كانت تسعى لموازنة المخاطر الملازمة لهذا الاندفاع بحدٍّ أدنى من الامتيازات الاجتماعية للمواطنين وقَدْرٍ من استقلالية القرار الوطني للحفاظ على استقرار حكمها نفسه في المقام الأول. ومن ثمَّ، فتحويلُ أحد هوامش حركتها الخارجية —أي المنظومة الدولية لحقوق الإنسان— إلى قيدٍ إضافيٍّ كان تطورًا خطيرًا ينبغي تحجيمه من وجهة نظرها.
الاستبداد القانوني: أشكاله وجذوره ومقاومته
استعراض مسار علاقة النخب المصرية الحاكمة بالمنظومة الدولية لحقوق الإنسان يوضِّح أمرين. الأمر الأول، أنَّ التكتيك السلطوي الهجومي الصريح للنظام المصري لم يكن ليتبلور ويتعزز إلَّا في ظل سياقٍ عالميٍّ من الصعود السلطوي، وهو ما وفَّر لهذا التكتيك حلفاءً جُددًا وعُدَّةً خطابيةً جاهزةً ترى في الأفكار الديمقراطية والمساواتية عمومًا عدوًّا يهدد سيادة واستقرار الدول. الأمر الثاني، أنَّ هذا التكتيك الهجومي لا يعتمد على مقاطعة مؤسسات النظام والهجوم عليها من الخارج أو المبادرة لتأسيس تجمعاتٍ إقليميةٍ بديلةٍ على أسسٍ مختلفة (كما في حالة الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي تبنَّته الجامعة العربية في تسعينيات القرن الماضي)، ولكنه يسعى في الواقع لاستغلال كافة نقاط التناقض والغموض داخل نفس الإطار المفاهيمي الليبرالي الديمقراطي للدفع بالتفسيرات التي تدعم التحول السلطوي العالمي، وذلك كما رأينا في التوظيف المتعسِّف لمبدأ سيادة الدولة وعدم التدخل أو في استغلال القلق الليبرالي التقليدي من الاستغلال الجنسي أو الاتجار بالبشر.
هذه الملامح الجديدة لمقاربة السلطويين المعاصرين للقانون الليبرالي بشكلٍ عام، سواء على الصعيد المحلي أم الدولي، هي ما ترصدها هبة خليل في دراستها في هذا العدد، وتسعى لتفسير جذورها التاريخية والفكرية. تطلق هبة خليل على هذه المقاربة مسمَّى "النزعة الاستبدادية القانونية" (Autocratic Legalism). ويشير المفهوم إلى منهجٍ محددٍ في صناعة القواعد القانونية وتفسيرها يرى في "حكم القانون" نقيضًا لفكرة الديمقراطية والسيادة الشعبية وليس تعزيزًا أو تجسيدًا لها، إذ ينتج هذا المنهج تفسيراتٍ للنصوص الدستورية والقانونية تدعم سلطة أجهزة الدولة التنفيذية على حساب مواطنيها بشكلٍ دائم، وتفضي إلى تجريد هؤلاء المواطنين من أي فاعليةٍ سياسيةٍ مستقلة. ويتَّسم هذا المنهج بتبنِّي نزعةٍ شكلانيةٍ خالصة (Formalistic) في تفسير النصوص القانونية، لا تهتم إلَّا باستيفاء شروط المشروعية الدستورية بغض النظر عن مضمون وآثار هذه التفسيرات على أرض الواقع. حتى النصوص الدستورية نفسها لم تسلم من هذا التلاعب، إذ ترصد هبة خليل في دراستها بعض أشكال التعديلات الدستورية المصمَّمة بعناية لتفريغ الممارسات الديمقراطية من مضمونها.
تعود خليل لتتبُّع جذور هذا الموقف من القانون في تاريخ فكرة "حكم القانون" نفسها. فالقانون الليبرالي الحديث، وفقًا لخليل، وبحكم نزوعه لتجريد وتشييء (Reification) العلاقات الاجتماعية، يستطيع أكثر من غيره شرعنة أشكال الهيمنة الطبقية والجندرية وتمثيلها كعلاقاتٍ طبيعيةٍ بين أشياء وقيم مجردة وليست بين أفرادٍ متعينين، بما يخلق حسًّا عامًّا متوهمًا بالمساواة بين هذه الأشياء والقيم. تفاقمت هذه النزعة الاستبدادية الكامنة في القانون الليبرالي مع التحول للنيوليبرالية، حيث سعت النخب النيوليبرالية في الشمال والجنوب إلى تحجيم كافة المؤسسات الديمقراطية والحد من دورها في الرقابة والإشراف على آليات السوق الرأسمالي، واستبدالها جميعًا بعددٍ من المؤسسات التنفيذية والقضائية غير المنتخبة. وضمنت النزعة الشكلانية المتفشية في أوساط النخب القانونية الجديدة ألَّا يخرج قضاؤها أو تفسيراتها عن حدود اختبارات المشروعية الدستورية والقانونية المحدودة، مما يعني عدم استهداف الأشكال المترسِّخة للهيمنة والتفاوت الاجتماعي التي تحميها تلك القوانين.
يرصد روبرت نوكس في تعليقه المختصر —الذي نقله إلى العربية عمرو جمال— تأثير نفس النزعة الاستبدادية والشكلانية في حقل القانون الدولي. في محاولةٍ لتفسير فشل مؤسسات القانون الدولي في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، يكشف نوكس عن التناقض الكامن في مفهوم "الدفاع عن النفس" المعروف في القانون الدولي العام. بالنسبة لنوكس، إذا تمكَّن طرفٌ ما —كدولة الاحتلال الإسرائيلية— من استيفاء شروط هذا المفهوم الشكلانية المحضة، يصبح هذا الطرف في حِلٍّ من غالبية التزاماته القانونية الدولية الأخرى، ما عدا تلك الالتزامات المحدودة في القانون الإنساني الدولي. يشدِّد نوكس على أنَّ هذا المفهوم —كغيره من المفاهيم القانونية على الصعيد المحلي— يفترض المساواة بين غير المتساوين، ويحجب واقع علاقات الهيمنة والاستعمار غير المباشر على الصعيد العالمي تمامًا، كما تحجب نفس المفاهيم الشكلانية علاقات الهيمنة على المستوى الوطني.
بالرغم من ذلك، فاستراتيجيات الاستبداد القانوني أبعد ما تكون عن الهيمنة التامة على المنظومة الدولية لحقوق الإنسان. صحيحٌ أنها تُحرِز تقدمًا ملحوظًا، معتمدةً على دعمٍ متزايدٍ من النخب القانونية حول العالم، إلَّا أنَّ المعركة لا تزال مفتوحة، والتفسيرات الديمقراطية والتقدمية لا تزال تقاوم. يشمل العدد الحالي، على سبيل المثال، عددًا من التقارير الهامة والتفسيرات القضائية لعددٍ من المحاكم الإقليمية الرائدة التي تواجه النزعة الشكلانية الاستبدادية في تفسير نصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان. وعلى وجه الخصوص، فتقرير المقرَّر الأممي الخاص بالحق في الغذاء، وتقارير المفوَّض السامي لحقوق الإنسان حول الأوضاع في الأراضي العربية المحتلة، وتقرير منظمة العمل الدولية حول مشاركة النساء في قوة العمل، وأخيرًا حُكما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حول حرية التعبير، كلها نصوص تستحق القراءة المدقِّقة. ما يربط بين هذه التقارير والأحكام جميعًا هو منهجٌ مناهضٌ بوعي للنزعة الشكلانية في تفسير النصوص القانونية، سواء الوطنية أم الدولية، ومحاولة بلورة مضمونٍ مساواتيٍّ كامنٍ تحت اللغة القانونية الجامدة، ينحاز للطرف الأضعف والأعزل في أي علاقةٍ اجتماعية.
لا يمكن الاعتماد بالطبع على عمل النخب القانونية التقدمية وحدها لمواجهة هذا الميل السلطوي القانوني، كما أنَّ التمرُّد على النزعة الشكلانية ليس خاليًا من المشاكل أو محصَّنًا من النقد، ولكن يمكن لعمل هذه النخب أن يدعم نضال القوى الاجتماعية المهمَّشة والمفقَّرة والمستغلَّة في معاركها اليومية.
والنخب القانونية المصرية لم تكن غائبةً تاريخيًّا عن نقد النزعة الشكلانية في صناعة وتفسير القوانين، بل كانت سبَّاقةً في الواقع إلى هذا النقد بحكم نشأتها الخاصة في مجتمعٍ خاضعٍ لأشكالٍ معقدةٍ وغير مرئيةٍ من الهيمنة الاستعمارية. الفقيه القانوني المصري الفذ عبد الرزاق السنهوري، على سبيل المثال، كان سبَّاقًا في تطوير اجتهادٍ عربيٍّ في إطار المدرسة الاجتماعية-القانونية التي ترى في القانون الحديث أداةً سلطويةً لترسيخ التضامن الاجتماعي بين الطبقات في المجتمع الرأسمالي، لا كأداةٍ يقتصر دورها على حماية الملكية الخاصة أو الحرية الفردية وفقط كما ذهبت المدارس الوضعية والليبرالية الكلاسيكية. ومنهج السنهوري في صياغة نصوص القانون المدني المصري الصادر عام 1949، وقبله صياغته للقانون المدني العراقي، يُعَدُّ مثالًا شارحًا على فهمه المتميز للوظيفة الاجتماعية للتقنيات القانونية الحديثة.
ولتنشيط الذاكرة، نعيد نشر حكمٍ تاريخيٍّ لأحد القضاة المصريين الذين وظَّفوا فهمًا قريبًا من فهم السنهوري، وهو حكم القاضي محمد أمين الرافعي، رئيس محكمة أمن الدولة العليا (طوارئ)، ببراءة 37 من عمال السكك الحديدية بعد إضرابهم الشهير عام 1986. في هذا الحكم، قدَّم كلٌّ من فريق الدفاع، وهيئة المحكمة نفسها، قراءاتٍ مبدعةً لمضمون الحق في الإضراب ووسائله والتزامات الدولة في هذا الشأن؛ قراءاتٍ تتجاوز قياسات المشروعية القانونية والدستورية الشكلانية.
وعلى خطى هؤلاء الرواد، يسعى كلٌّ من طارق عبد العال وحسن بربري في هذا العدد إلى توظيف نفسِ المنهج القانوني-الاجتماعي في التعاطي مع أزمتين جاريتين. يقرأ طارق عبد العال قرارات رفع رسوم التقاضي الأخيرة في مصر بوصفها إخلالًا جوهريًّا بالحق في التقاضي، إذ إنَّ هذه القرارات بالرغم من استيفائها لمتطلبات الشكل القانوني والدستوري، إلَّا أنها تتضمن تمييزًا بين المواطنين على أساس الدخل يحدُّ تلقائيًّا من قدرة الأطراف الأفقر والأضعف على النفاذ إلى ساحات القضاء. بل يذهب عبد العال أبعد من ذلك ويدعو إلى توفير دعمٍ مباشرٍ من الدولة لهذه الفئات حتى تتمكن من ممارسة حقها الدستوري الأصيل في التقاضي. أما حسن بربري في تعليقه على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 131 الخاصة "بالحد الأدنى للأجر"، فيستخدم ذات المنهج في نقد أحد المفاهيم المركزية التي تنبني عليه نصوص الاتفاقية، أي مفهوم "الاحتياجات الأساسية اللازمة لحياة لائقة". يحاول بربري أن يتجاوز التفسير التقليدي الضيق لهذا المفهوم، وأن يقدِّم تفسيرًا واسعًا يستجيب لاختلاف السياقات الاقتصادية والاجتماعية لأطراف الاتفاقية، وذلك في ضوء انحيازٍ صريحٍ للغالبية العظمى من العمالة المستغلَّة التي تسعى هذه الاتفاقية للانتصاف لها.
عمومًا، تتنقَّل مواد هذا العدد بين الرصد الخبري لتطورات المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، والتحليل والتفسير والنقد للمفاهيم المؤسِّسة لهذه المنظومة نفسها، وهو ما يجسِّد رسالة "نوافذ" التي فصَّلنا بشأنها في العدد التجريبي. "نوافذ" تسعى لأن تكون مساهمةً نقديةً باللغة العربية من مصر في جدلٍ عالميٍّ حول مستقبل منظومةٍ بُنيت عبر نضالات شعوبٍ مختلفةٍ على مرِّ عصورٍ مضطربةٍ وتستحق الدفاع عنها مهما كانت أوجه قصورها. نتمنى أن نكون قد وُفِّقنا في هذا العدد، ونتطلع إلى مساهمة المزيد من الكتّاب في الأعداد القادمة.